أثر أولئك المندوبون بدعوتهم الحماسية تأثيرًا منتجًا في نفوس السذج، فرحل الكثيرون من أفراد القبائل المختلفة إلى أم درمان، وكانوا في ذلك مدفوعين برغبة خالصة في التمتع بالغنى الذي سمعوا عنه، إلا أن عدد القادمين لم يكن كافيًا لتعمير وإنماء أم درمان، فعمد الخليفة عبد الله إلى إصدار الأوامر لأميري دارفور وكردوفان حتى ينفذا أوامره بالقوة؛ وتبعًا لذلك تدفق سيل المهاجرين، سواء أكانوا طائعين أم مرغمين، وانتهى الأمر إلى نقص عددهم بعد أن سمعوا الشيء الكثير عن الشدة التي يقاسيها من سبقوهم إلى أم درمان.
وإنه لمن الميسور لك أن تميز أنغام أولئك السودانيين بما فيها من تنافر قبيح، وبما اشتهرت به من ابتعاد عن كل توقيع مطرب.
.
وقد صور المتنبي هَذَا الفصل تصويرًا مؤثرًا حقًّا، فهو قد رفع الأمير عن اللوم ونزهه عن العار، بل هُوَ قد رفع الأمير فوق الشمس، بحيث لا يستطيع أحد أنْ يرفعه ولا أنْ يضعه، وبحيث لا يستطيع العار أنْ يسمو إليه، إنما العار كل العار على الذين خذلوه وأسلموه وتفرقوا عنه، والمجد كل المجد لهذا الأمير الوحيد الذي انهزم عنه الجيش فثبت للعدو، ولم يَحْمِ منه نفسه وحدها، وإنما حمى منه الجيش المنهزم أيضًا، والأيام دول، والزمان يُخطئ ويُصيب، فقد أخطأ فِي ذات الأمير هذه المرة، وهو مصلح خطأه من قابل، وهل أرض الروم إلا مصطاف الأمير حين يُقبل الصيف، ومرتبع الأمير حين يقبل الربيع، فالسيف معتذر إلى الأمير، والدهر منتظر أمر الأمير، وويل للروم بعد ذلك! كما وأن فقر أبي العتاهيه كان سببا في نجله الشديد.